سورة آل عمران - تفسير تفسير الشعراوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (آل عمران)


        


{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16)}
إن قولهم: {رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا} هو أول مرتبة للدخول على باب الله، فكأن الإيمان بالله يتطلب رعاية من الذي تلقى التكليف لحركة تفسه، لأن الإيمان له حق يقتضي ذلك، كأن المؤمن يقول: أنا ببشريتي لا أستطيع أن أوفى بحق الإيمان بك، فيارب اغفر لي ما حدث لي فيه من غفلة، أو من زلة، أو من كبر، أو من نزوة نفس.
وهذا الدعاء دليل على أنه عرف مطلوب الإيمان كما أوضحه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيانه لمعنى الإحسان حين قال: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
كأن تستحضر الله في كل عمل؛ لأنه يراك.
وهل يتأتى لواحد من البشر أن يجترئ على محارم من يراه بعينه؟ حينئذ يستحضر المؤمن ما جاء إلينا من مأثور القول، فكأنه سبحانه وتعالى يوجه إلينا الحديث: يا عبادي إن كنتم تعتقدون أني لا أراكم، فالخلل في إيمانكم. وكنتم تعتقدون أني أراكم فلم جعلتموني أهون الناظرين إليكم؟
وكأن الحق سبحانه يقول للعبد: هل أنا أقل من عبيدي؟ أتقدر أن تسيء إلى أحد وهو يراك؟ إذن فكيف تجرؤ على الإساءة لخالقك؟
إن قول المؤمنين: {إِنَّنَآ آمَنَّا فاغفر لَنَا} دليل على أنهم علموا أن الإيمان مطلوباته صعبة. {الذين يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} فلنر على ماذا رتبوا غفران الذنب؟ لقد رتبوا طلب غفران الذنب على الإيمان. لماذا؟ لإنه مادام الحق سبحانه وتعالى قد شرع التوبة، وشرع المغفرة للذنب، فهذا معناه أنه سبحانه قد علم أزلا أن عباده قد تخونهم نفوسهم، فينحرفون عن منهج الله.
ويختم الحق سبحانه الآية بقوله على ألسنة المؤمنين: {وَقِنَا عَذَابَ النار} لأنه ساعة أن أعلم أن الحق سبحانه وتعالى ضمن لي بواسع مغفرته أن يستر عليّ الذنب، فإن العبد قد يخجل من ارتكاب الذنب، أو يسرع بالاستغفار.
ولماذا لا يكون قوله {فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} بمعنى استرها يارب عنا فلا تأتي لنا أبدا؟ وإن جاءت فهي محل الاستغفار والتوبة. فإذا أذنبت ذنبا، واستغفرت ربي، وعلمت أن ربي قد أذن بالمغفرة؛ لأنه قال: {فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [نوح: 10].
فإن الوجل يمتنع، والخوف يذهب عني، وأقبل على الله بمحبة على تكاليفه وأحمل نفسي على تطبيق منهج الله كله. ولذلك حينما شرع الله الحق سبحانه وتعالى للخلق التوبة كان ذلك رحمة أخرى. وهذه الرحمة الأخرى تتجلى في المقابل والنقيض.
هب أن الله لم يشرع التوبة وأذنب واحد ذنبا، وبمجرد أن أذنب ذنبا خرج من رحمة الله فماذا يصيب المجتمع منه؟ إن كل الشرور تصيب المجتمع من هذا الإنسان لأنه فقد الأمل في نفسه، أما حينما يفتح الله له باب التوبة فإن ارتكب العبد ذنبا ساهيا عن دينه، فإن يرجع إلى ربه.
وتلك واقعية الدين الإسلامي، فليس الدين مجرد كلام يقال، ولكنه دين يقدر الواقع البشري، فإنه سبحانه يعلم أن العباد سيرتكبون الذنوب، فيرسم لهم أيضا طريق الإستغفار. وإذا ما ارتكب العباد ذنوبا، فإن الحق يطلب منهم أن يتوبوا عنها. وأن يستغفروا الله. فإذا ما لذعتهم التوبة حينما يتذكرون الذنب فإن هذه اللذعة كلما لذعتهم أعطاهم الله حسنة.
كأن غفران الذنب شيء، والوقاية من النار شيء آخر. كيف؟ لأنه ساعة أن يعلم العبد أن الحق سبحانة وتعالى ضمن للعبد مغفرته، وهو الخالق المربي، فإن العبد يذهب إلى الله مستغفرا طامعا في المغفرة والرحمة. إنها دعوة المؤمنين إن كانوا قد نسوا أن يستغفروا لأنفسهم. لماذا؟ لأن الاستغفار من الذنب تكليف من الله. وكما قلنا: إن الإنسان قد ينسى بعضا من التكاليف، لذلك فمن الممكن أن يسهو عن الاستغفار، ولذا يقول الحق على ألسنة عباده المؤمنين: {وَقِنَا عَذَابَ النار}.
ومعنى التقوى أن تجعل بينك وبين النار وقاية، أو تجعل بينك وبين غضب ربك وقاية، فإذا ما أخذت النعم من الله لتصرفها في منهج الله تكون حسنة لك، وقلنا: إن (اتقوا الله) و(اتقوا النار) ملتقيتان، لأن معنى (اتقوا النار) كي لا تصيبكم بأذى، (اتقوا الله) تعني أن نضع بيننا وبين غضب الله وقاية، لأن غضب الله سيأتي.
وبعد ذلك يقول الحق: {الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين...}.


{الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)}
وهذه كلها صفات للذين اتقوا الله، وأعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، والأزواج المطهرة، ورضوان من الله أكبر، وهم صابرون وصادقون وقانتون ومنفقون في سبيل الله، ومستغفرون بالأسحار.
وصابرون على ماذا؟ إنهم صابرون على تنفيذ تكاليف الله، لأننا أول ما نسمع عن التكليف فلنعلم أن فيه كلفة ومشقة والتكاليف الشرعية فيها مشقة لأنها قيدت حرية العبد.
لقد خلقك الحق خلقا صالحا لأن تفعل كذا أو لا تفعل. فساعة يقول لك: افعل.. فإنه قد سد عليك باب (لا تفعل) وساعة يقول لك الحق: لا تفعل فإنه يكون قد سد عليك باب (افعل)، وهكذا يكون تقييد حركتك وتقييد المخلوق على هيئة الإختيار فيه مشقة، فإذا ما جاء أمر الله ب (افعل) فقد يكون الفعل في ذاته شاقا، فإن صبرت على مشقة الفعل الذي جاء بوساطة (افعل) فأنت صابر، لأنك صبرت على الطاعة.. وقد تصبر عن المعصية، عندما يلح عليك شيء فيه غضب الله فترفض أن ترتكب الذنب، فتكون قد صبرت عن ارتكاب الذنب.
إذن ففي (افعل) صبر على مشقتها، وفي (لا تفعل) صبر عنها، فالصابرون لهم اتجاهان اثنان، لأن التكليف إما أن يكون بافعل، وإما أن يكون بلا تفعل. فساعة يأتي التكليف بافعل فقد تأتي المشقة.. وعندما تنفذ التكليف بافعل فأنت قد صبرت على المشقة.. وعندما يأتي التكليف ب (لا تفعل) كأمر الحق بعدم شرب الخمر، أو (لا تسرق) فأنت قد صبرت عنها.. إذن ف (افعل) ولا (تفعل) قد استوعبت نَوْعَيْ التكليف، وبقيت بعد ذلك أحداث لا تدخل في نطاق افعل ولا تفعل، وهي ما ينزل عليك نزولا قدريا بدون اختيار منك بل هي القهرية والقسرية.
فساعة أن يطلب منك أن تفعل، أي إنه قد خلقك صالحا ألا تفعل كما قلنا من قبل. إلاّ إن كنت مجبرا على الفعل فقط. وكذلك إذا قال لك الحق: (لا تفعل). والشيء القدرى الذي لا صلاحية فيه للاختيار ماذا يفعل فيه المؤمن؟ إنه يصبر على الآلآم والمتاعب لأنه آمن بالله ربا، والرب هو الذي يتولى تربية المربي لبلوغه حد الكمال المنشود له فإذا جاء لك الحق بأمر لا خيار لك فيه، كالمرض أو الكوارث الطارئة، كوقوع حجر من أعلى أو إصابة برصاصة طائشة، فكل ذلك هي أمور لا دخل ل (افعل) ولا (تفعل) فيها.
وهناك يكون الصبر على مثل هذه الأمور هو الإيمان بحكمة من أجراها عليك. لأن الذي أجراها رب، وهو الذي خلقني فأنا صنعته.
وما رأينا أحدا يفسد صنعته أبدا. فإذا ما جاء أمر على الإنسان بدون اختيار منه، فالذي أجراه له فيه حكمة فإن صبر الإنسان على هذه الآلام فإنه يدخل في باب الصابرين.
إذن فالصابرون أنواع هم: صابر على الطاعة ومشاقها، صابر على المعاصي ومغرياتها، وصابر على الأحداث القدرية التي تنزل عليه بدون اختيار منه. وإذا رأيت إنسانا قد صبر على أمر الطاعة وصبر عن شهوة المعصية وصبر على الأقدار النازلة به، فاعرف حبه لربه ورضاه عنه.
ونأتي بعد ذلك لوصف آخر يقول الله فيه: {الصابرين} {والصادقين}.
والصدق كما نعلم يقابله الكذب، والصدق كما نعرف حقيقته: يأتي حين توافق النسبة الكلامية التي يتكلم بها الإنسان، النسبة الأخرى الخارجية الواقعة في الكون.
فإن قلت: (حصل كذا وكذا) فتلك نسبة كلامية صدرت من متكلم، فإن وافقها الواقع بأنه حصل كذا وكذا فعلا يكون المتكلم صادقا. وإن لم يكن الواقع موافقا لحدوث ما أخبر به يكون المتكلم كاذبا. لماذا؟ لأن كلام المتكلم العاقل لابد له من نسب ثلاث:
الأولى وهي النسبة الذهنية: فقبل أن أتكلم أعرض الأمر على ذهني، وذهني هو الذي يعطي الإشارة للساني ليتكلم، هذه هي النسبة الأولى واسمها (نسبة الذهن). وقد يعن لي أن تأتي النسبة الذهنية ثم أعدل عنها فلا أتكلم، فتكون النسبة الذهنية قد وُجِدت، والنسبة الكلامية لم توجد.
وقد أصر على أن أبرز إشارة ذهني على لساني فأقول النسبة الكلامية. ونأتي بعد النسبة الكلامية لنرى: هل الواقع أن ما حدث وتحدثت به وقع أم لم يقع؟ فإن كان قد وقع، يكون الكلام مني صدقا. وإن لن يكن قد وقع، وكانت النسبة الخارجية على عكس ما أخبرت به. فإننا نقول: (هذا كلام كذب) إذن: فالصدق: هو أن تطابق النسبة الكلامية الواقع. والكذب: هو ألا تطابق النسبة الكلامية الواقع وكثيرا ما يخطىء الناس في فهم الواقع فيجدون تناقضا في بعض الأساليب.
مثال ذلك، حينما تعرض بعض المستشرقين لقول الحق سبحانه وتعال: {إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} [المنافقون: 1] تلك نسبة كلامية صدرت منهم، فهل هي مطابقة للواقع أم هي مخالفة له؟ إنها مطابقة للواقع. ويؤكد الحق ذلك بقوله: {والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} [المنافقون: 1].
بعد ذلك يقول الحق سبحانة: {والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1].
فقيم كذب المنافقون؟ هل كذبوا في قولهم: {إِنَّكَ لَرَسُولُ الله}؟ لا. إن الحق لم يكذبهم في قولهم: {إِنَّكَ لَرَسُولُ الله}؛ لأن الله قد أيد هذه الحقيقة بقوله {والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ}.
ولكن كذبهم الله فيما سها عنه المستشرق الناقد عندما قالوا: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله}. لقد كذبهم الله في شهادتهم، لا في المشهود به، وهو أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول من الله، إن الله يعلم أن محمدا رسوله المبعوث منه رحمة للعالمين، لكن الكذب كان في شهادتهم هم.
إن كلام المنافقين مردود من الله. لماذا؟ لأن الشهادة تعني أن يواطئ اللسان القلب ويوافقه. وقولهم: شهادة لا توافق قلوبهم وتعنى كذبهم.
إذن، فالتكذيب هو لشهادتهم، فلو قالوا: {إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} دون (نشهد) لكان قولهم: قضية (سليمة). ولذلك كان تكذيب الله لشهادتهم، ومن هنا ندرك السر في قول الله: {والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ}. إن الحق يؤكد الأمر المشهود به وهو بعث محمد رسولا من عند الحق، وبعد ذلك يأتي لنا الحق بشهادته إن المنافقين كاذبون في قولهم: (نشهد). فالصدق أن تطابق النسبة الكلامية الواقع. والصدق- كما قلنا من قبل- حق، والحق لا يتعدد، وضربت من قبل المثل بأن الإنسان الذي نطلب منه أن يروي واقعة شهدها بعينيه، وأن يحكيها بصدق لن يتغير كلامه أبدا، مهما تكرر القول؛ أو عدد مرات الشهادة. لكن إن كانت الواقعة كذبا، فالراوي تختلط عليه أكاذيبه، فيروي الواقعة بألوان متعددة لا اتساق فيها، وقد ينسي الراوي الكاذب ماذا قال في المرة الأولى، وهكذا ينكشف سر الكذب. لكن الراوي عن واقع مشهود وبصدق، هو الذي يحكى، وهو الذي لا تختلف رواياته في كل مرة عن سابقتها بل تتطابق.
فعندما نقول: (إن زيدا مجتهد)، فهذا يعني أن اجتهاد زيد قد حدث أولا، ثم يأتي في ذهن من رأى اجتهاد زيد أن يخبر بأمر اجتهاده، ثم يخبر بالكلام عن اجتهاد زيد. إن الأمر الخارج وهو اجتهاد زيد قد حدث أولا، وبعد ذلك تأتي النسبة الذهنية، وبعد ذلك تأتي النسبة الكلامية.
ولكن الإنشاء وهو ضد الخبر، هو أن نطلب من واحد أن ينشئ أمرا لا واقع له، كأن نقول لواحد: اجتهد. إننا قبل أن نقول لإنسان ما: (اجتهد) فمعنى ذلك أن الإجتهاد كان أمرا في ذهن القائل، وعندما ينطقها تصبح (نسبة كلامية). وبعد ذلك يحدث الواقع، بعد النسبة الذهنية، والنسبة كلامية، وهذا هو الإنشاء.
إن الإنشاء الطلبي يعني أن تحدث النسبة الخارجية بعد النسبة الكلامية. والصادقون هم الذين أراد الله أن يمدحهم، لماذا؟ وأين هو مجال صدقهم؟ إنهم الذين تتطابق حركتهم مع منهج الله، لأنهم حين قالوا: (لا إله إلا الله)، وآمنوا به، فهم قد التزموا بكل مطلوبات الإيمان قدر الطاقة. ومعنى (لا إله إلا الله) أي لا معبود إلا الله. ومعنى إلا الله أي أنه لا طاعة إلا لله.
والطاعة- كما نعرف- هي امتثال أمر، وامتثال نهي.
إذن فمجال (لا إله إلا الله) يشمل أنه لا معبود بحق إلا الله، ولا مُطاع في تكليفه إلا الله، ولا امتثال لأمر أو لنهي إلا للأمر القادم من الله؛ فإن امتثال إنسان الأمر من الله بعد قوله: (لا إله إلا الله) كان هذا الإنسان صادقا في قوله: (لا إله إلا الله).
وهذا هو صدق القمة، أن تكون كل تصرفات قائل: (لا إله إلا الله) متطابقة مع هذا القول. والمؤمن الحق هو من يبني كل تصرفاته موافقة لمنهج الله. هذا هو الإنسان الصادق. أما الذي يقول بلسانه: (لا إله إلا الله، لا معبود بحق إلا الله) ثم يخالف ربه بعصيانه له، لنا أن نقول له: أنت كاذب في قولك (لا إله إلا الله) لماذا؟ لأنه لم يطابق النسبة التي قالها. إن هذا الإنسان إذا آمن بأي تكليف ثم فعل ما يناقضه قلنا له: أنت منافق، لماذا؟ لأننا عندما تكلمنا في أول سورة البقرة عن المنافقين قلنا: إن المؤمن حين يؤمن بالله يكون صادقا مع نفسه؛ لأنه قال: (لا إله إلا الله) وهو مؤمن بها، والكافر حين ينكر الألوهية يكون صادقا مع نفسه أيضا.
أما المنافق فهو لا يصدق مع نفسه، ولا يصدق مع الناس، إنه مذبذب بين هؤلاء وهؤلاء. إن المنافق بلا صدق مع النفس، ولذلك يصفهم الحق: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء} [النساء: 143].
إن الكافر له صدق مع النفس فهو لا يقول: (لا إله إلا الله) لأنه لا يعتقدها. أما المنافق فقد قال: (لا إله إلا الله) وهي غير مطابقة لسلوكه، لذلك يكون غير صادق مع نفسه، وغير صادق مع ربه. إذن، فقول الحق: {والصادقين} مقصود به هؤلاء الناس الذين يأتون في كل حركاتهم صادرين عن منهج الله، فلا يؤمنون بقضية، ويفعلون أخرى. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2-3].
أي أنه حين يكون القول شيئا مختلفا عن الفعل، لا تتطابق النسبة. فالصادقون هم الذين يصدقون في سلوكهم مع كلمة التوحيد في كل ما تتطلبه هذه الكلمة من هذه السلسة: (لا إله إلا الله لا معبود بحق إلا الله) أي لا مطاع في أمر أو نهي إلا الله، فإن جئت وطاوعت أحدا في غير ما شرع الله يحق للمؤمنين أن يقولوا لك: أنت كاذب في قولك: (لا إله إلا الله).
(فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن).
هذا هو سمو الإيمان عند المؤمن، إن المؤمن لا يمكن أن يكذب أو يخالف مقتضيات عقيدته؛ لأن المؤمن في كل تصرفاته خاضع لإيمانه بأنه لا إله إلا الله.
ثم يقول الحق: {والقانتين} والقانت: هو العابد بخشوع وباطمئنان وباستدامة. والقانت صادق مع نفسه، لماذا؟ لأن الحق سبحانه وتعالى حين يكلف عباده تكليفا، فقد يكلفهم بشيء يعز على أفهامهم أن تدرك حكمته.
وأقبل القانتون من العباد على هذا التكليف؛ لأن الذي أمرهم به إله قادر، فهم يثقون في حكمته فأدُّوا الأمر الصادر إليهم لأنهم خاضعون لحكمة الله.
إنهم منفذون للأمر القادم من الآمر لا لعلة الأمر. وبعد أن يصنعوا ذلك؛ يريهم الله نورانية هذا الحكم بأن يعطيهم فرقانا في أنفسهم: {يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله ذُو الفضل العظيم} [الأنفال: 29].
فيقول المؤمن منهم لنفسه بعد أن يرى هذا الفرقان: إن الله قد أراد لي بهذا الأمر أن أدرك حلاوة طاعة هذا الأمر، لذلك قال أحد العارفين بالله: إن كنت تريد أن تعلم عن الله حكما كلفك الله به دون أن تعلم علته فاتق الله فيه، وحين تتقي الله في هذا الأمر، فإنك تجد الحكمة مستنيرة في ذهنك، ولذلك يقول الله: {واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282].
فكأنك قبل التقوى لم يعلمك الله، أما بعد التقوى فإن الله يعلمك، فتقبل على تنفيذ التكليف لتلمس إشارة في نورانية نفسك، وهذا هو الفارق بين الأمر من المساوى، والأمر من الأعلى. وعندما ترتقي كلمة (الأعلى)، فإنها لا تنطبق إلا على الأعلى المطلق وهو الله، لأنه الأعلى في الحكمة، والأعلى في المنزلة، والأعلى في المكانة، والأعلى في الربوبية.
إذن، فالإنسان لا يطلب علة حكم إلا من مساو له، فإن قال لك أحد من البشر: افعل الشيء الفلاني. فإنك تسأله: لماذا؟ فإن أقنعك، فأنت تقوم بالفعل. وتكون قد قمت بتنفيذ هذا الفعل؛ لأن المساوى لك قد أقنعك بالحكمة لا بالطاعة له.
ولكن عندما يصدر الأمر من الأعلى وهو الحق سبحانه وتعالى، فإنك أيها العبد المؤمن تنفذ الأمر فورا عشقا في طاعته. والمثال الذي أضربه للتقريب لا للتشبيه، فالله الأعلى، وهو منزه عن كل شبيه، إن الأب يقول للابن في حياتنا اليومية: إن نجحت في المدرسة فسأحضر لك هدية هي الدَّراجة. فهل معنى ذلك أن علة الذهاب إلى المدرسة هي الحصول على الدراجة كهدية؟ لا، ليست هذه هي العلة، إن العلة عند الأب هي أن يتعلم الابن ويتفوق في حياته، ويكبر، وعند ذلك يدرك العلة، ويقول لنفسه: لقد كان أبي على حق.
إذا كان هذا يحدث في الحياة بيننا نحن البشر، فكيف لنا بطاعة الأمر الصادر من الله؟ إن الحق سبحانه وتعالى حين يكلف العبد تكليفاً، فإن العبد قد يجد مشقة في فهم العلة. والعبد المؤمن يعرف أن الرضوخ لتكليف الحق إنما هو خضوع للأمر الأعلى.
إن العبد المؤمن يعرف أنه آمن بمن هو أعلى منه وأعلى من كل كائن، ولا يساويه أحد، إن العبد المؤمن يعرف أنه آمن أولا بأن الله هو الإله الواحد سبحانه له مطلق الحكمة، وله القوة وله كل شيء في الكون، وسبق أن ضربت المثل- ولله المثل الأعلى.
إن الإنسان قد يمرض، وصحة الإنسان أثمن شيء عنده، فيفكر في الذهاب إلى طبيب، ويقول له: إنني أتعب من معدتي، أو من قلبي أو من أمعائي. إنه يحدد ما يشكو منه. وعقل الإنسان هو الذي هداه إلى الطبيب الذي يشخص العلة، وبعد ذلك يأخذ المريض من الطبيب ورقة مكتوباً فيها الأدوية اللازمة. إن الإنسان يتناول كل دواء من هذه الأدوية دون أن يسأل الطبيب عن حكمة كل دواء؛ لأنه لو سأل عن ذلك فهذا معناه الدخول في متاهة كيماوية، فإن سأل أي إنسان ذلك المريض: لماذا تأخذ هذا الدواء؟ فيجيب المريض: لأن الذي كتب لي هذا الدواء هو الطبيب المختص بعلاج المعدة، أو القلب، أو الأمعاء أو أي عضو يشكو منه الإنسان.
والطبيب قد يخطىء، إنما حكم الله لا يخطئ أبدا، فهو جل شأنه منزه عن الخطأ تماما. إن الحكمة تكون عند الحق سبحانه وتعالى، وعندما ينفذ المؤمن مطلوب الله فإنه يدرك آثار الحكمة الربانية في نفسه. وكلمة (قانتين) كما عرفنا هي وصف لمن يعيشون القنوت، والقنوت هو عباده مع خضوع، وخشوع واستدامة. لماذا الخضوع، والخشوع؟
لأن الله جل وعلا لم يشرع العبادة لينفذها الإنسان، وينقذ نفسه من عذاب النار، لا؛ إننا نرى كثيرا من الناس- إذا ما لا حظنا واقع الحياة- إذا وجدوا رئيسا قوى الشكيمة وقوانينه صارمة في أن الموظفين تحت يده يجب أن يحضروا صباحا في الميعاد المحدد، وأن ينصرفوا في الميعاد المحدد، ولا يسمح لهم بالاشتغال بغير العمل، فلا يشربون الشاي، ولا يقرأون الصحف ولا يقابلون الأصدقاء، وغير ذلك من الأعمال. ويأتي واحد من الموظفين فيقول عن هذا الرئيس (إنه شديد المراس، ولذلك فليس له عندي إلا أن أحضر في الثامنة إلا خمس دقائق، ولن أنصرف إلا في الثانية وخمس دقائق، ولن أقرأ الصحف ولن أفعل أي شيء مما يمنعه). إن هذا الموظف يفعل ذلك بجبروت واستعلاء على رئيسه حتى لا يسمح له بنقد أو تجريح، فهذا الموظف ممتثل ولكن باستعلاء.
إنها طاعة بلا حب، ولكنها باستعلاء. وقد يحاول عبد أن يقول: ماذا يطلب الله مني؟ ألا يطلب منى الصلاة والزكاة وإقامة العبادات؟ سوف أفعل ذلك. لمثل هذا العبد نقول: لا، إن الله يطلب العبادة بحب منك وخشوع واطمئنان، لأن التكليف من الحق صدقة أخرى أجراها الله على العبد. إن الحق سبحانه وتعالى قد كلف العبد بالتكاليف الإيمانية، حتى يكون الإنسان سويا وله قيمة في الحياة.
إن معنى (قانت) هو العبد الذي يؤدي عبادة ربه بخشوع، وباطمئنان، وباستدامة. لماذا؟ لأن الذي يقبل على الطاعة ثم ينصرف عنها كأنه قد جرب وده لله فلم يجد الله أهلا للود. أما العبد الطائع فهو لا ينصرف عن العبادة، لأنه ذاق حلاوة استدامة العبادة لله، ومادام قد أدرك حلاوة العبادة فهو يقبل عليها بخشوع، واطمئنان، واستدامة، ويدخل في دائرة القانتين.
وبعد (القانتين) يقول الله سبحانه: {والمنفقين} وكلمة أنفق و(نفق)، مأخوذة من كلمة (نفق الحمار) أي مات، و(ونفقت السوق) أي انتهت بضائعها واشتراها الناس ولم يبق منها شيء. و(نفقة) مأخوذة من هذا المعنى لتشعرنا بأن الإنسان حين ينفق فهو يُميت ما أنفقه من نفسه، فلا يتذكر أنه أنفق على فلان كذا، وعلى علان كذا، أي يعلم يقينا أن ما أنفقه هو رزق من أنفقه عليهم وليس له إلا أجر إيصاله إليهم فلا مَنّ، ولا إذلال.
إن الله يريد من كل إنسان يُخرج شيئا من ماله أن ينهى من ذهنه هذا الشيء الذي خرج من المال فلا يذكره ولا يَمُنّ به على أحد. (والنفقة)، تقتضي وجود منفق، ومنفقا عليه، ومنفقاً به، المنفق كما نعرف هو المؤمن الذي عنده فضل مالٍ، والمنفق عليه هو الفقير، والمنفَق به هو الخيرات.
ومن أين تأتي هذه الخيرات؟ إنها تأتي نتيجة الحركة في الحياة، وحركة المتحرك في الحياة تقتضي قدرة، فإذا كان الإنسان عاجزا، ولا يجد القدرة على الحركة، فمن أين يعيش، إن الله لابد أن يضمن له في حركة القادر ما يعوله.
لقد جعل الله القدرة عرضا من أعراض الحياة، فالقادر اليوم قد يصير عاجزا غدا. ومادامت القدرة عرضا من أعراض الحياة، فالقادر الآن عندما يسمع الأمر من الله بأن ينفق على غير القادر، فلابد أن يُقدر في نفسه أن قدرته هي عرض من أعراض الحياة، والقادر الآن من الأغيار، لذلك فهو عرضة لأن يصير غدا من العاجزين، ويقول القادر لنفسه: (عندما أصبح عاجزا سوف أجد من يعطيني). أليس ذلك هو التأمين الحق؟ إنه تأمين المؤمن. إن المؤمن يعطي عند قدرته، وذلك حتى يجنبه الله مشقة السؤال إن جاءت الأغيار، لأن الأغيار إن جاءت سوف يجد من يعطيه.
إننا يجب أن نلحظ في الحكم، لا ساعة أن تطالب أنت بأداء مطلوب الحكم، ولكن ساعة أن يؤدي الغير إليك مطلوب الحكم. فالذي يطلب منه أن ينفق، عليه أن يقدر أنه قد يصبح عاجرا، ولنا أن نسأله: لو كنت عاجزا ألم تكن تحب أن يعطيك الناس دون مَنٍّ أو أذى؟
إن هذا هو التأمين الحق، لأن التأمين في يد الله، ومادامت الأغيار عرضة لأن يصير القادر عاجزا ويصير العاجز قادرا، فساعة ينفق المنفق يجب عليه أن يميت أنه أنفق فلا يتذكر وجه من أنفق عليه، ولا يخبر أحدا بما أنفق.
عد الرسول صلى الله عليه وسلم الرجل الذي أنفق حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه من السبعة الذين يظلهم الله في ظله فقال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله فاجتمعا على ذلك وافترقا عليه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه).
وبعد ذلك على المؤمن المنفق أن يُقدر ساعة عطائه أنه ادّخر ليأخذ، إما أن يأخذ إن طرأت له الأغيار في الدنيا، وإما أن يأخذ من يد الله في الآخرة أضعافا مضاعفة. إذن، فالمنفق هو الذي يُؤَمِّنُ لغير القادر حركته في الحياة ضمانا لنفسه حين لا يقدر؛ أو استثمارا مضاعفا عند الله، وهؤلاء المنفقون الذين يَسَعُونَ العاجزين بفضل ما لديهم، يظهرون حكمة الله في الوجود، لأن الله ما دام قد خلقنا، وفينا القادر، وفينا العاجز، فقد أراد الله لنا أن نعرف أن القدرة ليست لازمة في الخلق. فإن قدرت الآن فقد تُسلب- بضم التاء- منك هذه القدرة، وما دامت القدرة يتم سلبها، فلابد أن يتمسك المؤمن بالقيوم الذي يقيم القدرة لك أيها المؤمن دائما، وذلك حتى يعرف الواحد منا أنه لم ينفلت من ربه، خلقنا قادرين وانتهت المسألة. لا. إنّ القدرة أغيار تذهب وتجيء. ومادامت الأغيار تذهب وتجيء فلابد أن يضع المؤمن نصب عينيه عطاء القادر الأعلى.
وقلنا سابقا: إن الله جعل المنفقين وصفا من أوصاف الذين اتقوا، والذين أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وذلك حتى يحمى الله الضعيف الذي خلقه الله لحكمة في الوجود. إن الإنفاق ليس أخذا من العبد، إنما هو مناولة، هذه المناولة تتضح في أنه ما كان لك ما يزيد عن حاجتك، إلا بحركتك في الحياة.
وهذه الحركة في الحياة تتطلب عقلا يخطط للحركة وجوارح تنفذ المخطط الفكري، ومادة يتم الفعل فيها سواء كانت أرضا تتم زراعتها أو آلة يتم الصنع بها، ولا شيء للإنسان من هذا في الكون. إن المخ الذي يدبر هو عطاء من الله، والطاقة التي تنفذ هي عطاء من الله. ونحن نرى في الحياة إنسان قد نزع الله عنه المخ الذي يفكر ويدبر، ونجد إنسانا آخر قد نزع الله منه الطاقة التي تنفذ، فقد يمنع الله عن عبدٍ المادة التي يتفاعل معها.
إذن فلا شيء من هذه الأشياء ذاتي للإنسان، إنها كلها عطاء من الله. فليعمل المؤمن مضاربا عند الله، وليعط المؤمن للعاجز حق الله. إن الله لا يأخذ هذا الحق لنفسه إنما يريده الله لأخيك العاجز، وسوف يطلب الله هذا الحق لك إذا عنَّت لك حاجة بسبب الأغيار.
هكذا تكون {والمنفقين} صفة من صفات الذين اتقوا ربهم. والحق سبحانه وتعالى قد جعل في الصبر، صلابة اليقين الإيماني في النفس البشرية. وفي الصدق انسجاما مع واقع لا إله إلا الله، وفي النفقة حماية العاجز الذي لا يقدر.
وبعد ذلك يعود إلى نفس المؤمن عودة أخرى فيقول: {والمستغفرين بالأسحار} إننا يجب أن نأخذ هذا الوصف بعد مجيء الأوصاف الأخرى في النفس البشرية. البداية هي إقرارهم بالإيمان، ودعاؤهم الحق سبحانه أن يغفر لهم وقد طلبوا الوقاية من عذاب النار، وصبروا، وصدقوا، وقنتوا في العبادة، وأنفقوا في سبيل الله، إن كل هذه الأوصاف تبرئ ذمتهم من أنهم مقصرون أيضا في حقوق إلههم لذلك فهم يأتون حال السكون بالليل، ويستغفرون الله.
إما أن يستغفر العبد لأنه قد فرطت منه هفوة في ذنب، وإما أن يستغفر لأنه لم يَزد فيما يفعله من أمور الطاعة. وكلمة {بالأسحار} توضح لنا لحظات من اليوم يكون الإنسان فيها محل الكسل والراحة، إن الذي سوف يصحو في السحر لابد أن يكون قد اكتفى من الراحة، ولم يكن قد أخذ منه كد الحياة كل النهار، ثم إن بعضهم يأخذه لهو الحياة ليلا.
وهذا هو وجه الخيبة لما يحدث في زماننا. إن كد الحياة- إن أخذ- يأخذ نهارا، وبعد ذلك يأخذنا لهو الحياة ليلا، مما نشاهده من لهو الحديث، ولهو السهرات، وبعد ذلك يأتي الإنسان لينام متأخرا، فكيف نطلب من هذا الإنسان أن يصحو في السحر؟ إن الذي يصحو في السحر هو من أخذ حظه في الراحة، فبعد أن جاء من كد العمل نام نوما هادئا، ويصحو من بعد ذلك في السحر ليذكر ربه، في الوقت الذي نام فيه غيره من الناس، لماذا؟ لأن الحق سبحانه وتعالى في لحظة سكون الليل يوزع رحمته، وعندما يصحو إنسان في السحر ويدعو الله، ويستغفره فإنه يأخذ من رحمة الله النازلة.
وعندما يأخذ هذا العبد من رحمة الله النازلة في ذلك الوقت، فمعنى هذا أنه سيأخذ الكثير من رحمة الله. وإياك أن تقول: لو صحونا جميعا في الأسحار لنفدت الرحمة والعطاء (لا) لأن الله قد قال: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ} [النحل: 96].
إن قدرته جل وعلا تتسع لعطائنا جميعا دون أن ينقص شيء من عنده. إن كل هذه الأشياء من التقوى، والإقرار بالإيمان، وطلب المغفرة للذنوب، وطلب الوقاية من عذاب النار، والصبر، والصدق، والقنوت، والإنفاق في سبيل الله، والاستغفار بالأسحار، كل ذلك نتيجة للتقوى الأولى.
إنها الثمرة من (لا إله إلا الله). وما دامت هذه هي الثمرة من (لا إله إلا الله) فليعلم كل إنسان، أن الله لم يدعك لتستنبطها أنت من مفقود، بل اعلم أن الله قد شهد أنه لا إله إلا الله، وكفى بالله شهيدا. ولذلك يقول الحق: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة...}.


{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)}
ولنأخذ الجملة الأولى من الآية الكريمة بمعناها: لقد شهد الله أنه لا إله إلا هو، أي أنَّ الحق قد أخبر بما رآه، وشاهده، أو ما يقوم مقام ذلك. إن (شهد) بمعنى علم.
إنه الحق الذي نصب الأدلة في الوجود على قيوميته، وعلى أنه إله واحد، أليس في ذلك إقامة للحجة على أنه إله واحد؟ ومن الذي خلق الأدلة وجاء بها؟ إنه الله.
إذن، فقد شهد الله أنه لا إله إلا هو. وقلنا: إن شهادة الله أنه لا إله إلا هو هي شهادة الذات للذات، وشهادة الذات للذات تعني أنها كلمة مُمَكّنٌ منها. فعندما يقول الحق: {بَدِيعُ السماوات والأرض وَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117].
بالله لو لم يكن قد شهد لنفسه بأنه لا إله إلا هو، وليس هناك من يعارض مبتغاه، أكان يجازف فيقولها؟ إنه الحق الأعلى الذي شهد أن لا إله إلا هو، فساعة أن يقول: (كن) فإنه قد علم، أنه لا يوجد إله آخر يقول: (لا تكن). إن الحق لابد أن يطمئَننا أنه لا إله إلا هو، لذلك فلزم أن يشهد لنفسه أنه مؤمن بأنه لا إله إلا هو ويلقى الأمر، ويلقى الحكم التسخيري، ويعلم أنه لا إله يعارضه.
وأليس من مطلوبات الرسول صلى الله عليه وسلم أن يشهد أنه رسول الله؟ لقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال في صلاته: (أشهد أن محمدا رسول الله). ولو لم يشهد بهذه لنفسه فكيف يجازف بالأشياء التي يقولها؟ ولذلك فسيدنا أبو بكر عندما بلغه أمر بعث محمد رسولا، قال ما معناه: أقالها محمد؟ إنه صادق، وما دام قد قالها فهي حق.
إن أبا بكر الصديق واثق من الرصيد الذي سبق بعث محمد بالرسالة. ونحن نرى في التاريخ امرأة كان السبب في إسلامها لمحة من سيرته صلى الله عليه وسلم. قرأت هذه المرأة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان له حراس من المؤمنين يقومون بحراسته من الكافرين. وبعد ذلك جاء يوم وصرف الرسول صلى الله عليه وسلم هؤلاء الحراس، وقال لهم ما معناه: إن الله عصمني من الناس فاذهبوا أنتم.
وقد قرأنا هذه الواقعة كثيرا جدا، ولكن الفتح جاء من الحق لامرأة، فشغلتها هذه المسألة، وتساءلت: ألم يكن هؤلاء الحراس يحرسونه خوفا على حياته؟ فلماذا قال لهم: (لا تحرسوني) لأن الله هو الذي يحرسني؟ فلو أن رسول الله قد غش الدنيا كلها؛ أكان من الممكن أن يغش نفسه في حياته؟
وأجابت المرأة على نفسها: لا يمكن، لابد أن رسول الله قد وثق تمام الثقة في أن الله قد أبلغه أمر حمايته بدليل أنه قام بصرف الحراس، وإلا فكيف يأمن أن يأتي أحد ليقتله؟ قالت المرأة: والله لو خَدع الناس جميعا ما خَدع نفسه في حياته، أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
حدث إسلام هذه المرأة من نفحة يسيرة من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذن، {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} هي شهادة الذات للذات، وكفى بالله شهيدا. وشهدت الملائكة أيضا، والملائكة هم الغيب الخفي عنا، وتتلقى الأوامر من الحق. إن الملائكة لم يروا أحدا آخر يعطي لهم الأوامر، إنه الإله الواحد القادر. وهذه هي شهادة المشهد. ويضاف إلى الملائكة {وَأُوْلُواْ العلم} الأدلة وجلسوا يستنبطون من كون الله أدلة على أنه لا إله إلا الله.
إن هذه أعظم شهادة لأعظم مشهود به من أعظم شهود، الله في القمة، ومحمد صلى الله عليه وسلم، والملائكة وأولوا العلم. ولقد أخذ أولوا العلم منزلة كبيرة لأن الله قد قرنهم بالملائكة.
إن الحق سبحانه وتعالى يبلغنا أنه قد نثر في كونه الآيات العجيبة العديدة والذي يجلس، ويتفكر ويتدبر، ويتفطن وينظر، فإنه يستخرج الأدلة على أنه لا إله إلا هو، وكما قلنا من قبل: إن أبسط الطرق للتدليل على هذه الحقيقة. إن كانت (لا إله إلا الله) صدقا فقد كُفينا، وإن كانت غير صدق فأين الإله الذي أخذ منه الله هذا الكون، ولم يخبرنا ذلك الإله أنه صاحب الكون؟ فإما أن هذا الإله الآخر لم يَدْر، أو أنه قد علم، ولا يستطيع فعل شيء، إذن فلا يصح أن يكون إلها يزاحم الحق الذي أبلغنا أنه لا إله إلا هو.
وتظل (لا إله إلا الله) لصاحبها- جل شأنه- (شهد الله أنه لا إله إلا هو) وفي كل حركة من حركات الحياة نجد أن الانفراد بصدور الحركة قد يعطي علوا، وقد يعطي استكبارا.. لذلك نقول: ها هو ذا الخالق الأعلى الذي (لا إله إلا هو) يخبرنا أنه قائم بالقسط. ورغم أنه لا أحد في استطاعته أن يتدارك على الله، إلا أنه يطمئننا أنه قائم بالقسط.
ولنلحظ هنا ملحظاً جميلا في الأداء {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط} لماذا لم يقل الله إن (الملائكة) و(أولوا العلم)، الذين شهدوا أنه لا إله إلا هو (قائمين) بالقسط؟ لقد شهد الله أنه لا إله إلا هو قائما بالقسط، والملائكة شهدوا هذه القضية والعلماء شهدوا أيضا بهذه القضية.. لماذا؟ لأن الله لو قال: (قائمين بالقسط) لكان الله مشهودا عليه من هؤلاء، والشهادة هي له وحده أنه قائم بالقسط والعدل.
لأنه سبحانه خلق الملائكة بالقسط، فلو كانوا معه في ذلك لما استقام الأمر، وأولوا العلم أيضا مخلوقون بالقسط؛ لأن الله قد وزع حركة الحياة على الناس، فَنَاسٌ يعملون بعقولهم، وآخرون يعملون بقلوبهم، وقوم غيرهم يعملون بجوارحهم، فهذا هو لون من عدل الله، وإلا، فهل يدعي أحد أن إنسانا تتجمع فيه كل المواهب التي تتطلبها الحياة. لا، وهذه من عدالة الرحمن.
إن من عدالة الحق أنه وزع المواهب بين البشر، فبدلا من أن يعتمد الإنسان على نفسه في صناعة الملبس والمأكل، والمشرب، جعل الله المهارات موزعة بين البشر.. فأتقنت مجموعة من البشر حرفة الزراعة لإنتاج الطعام الذي يكفيهم، ويسد حاجة غيرهم، وكذلك تبادلوا مع غيرهم المنافع، فالإنسان- بمفرد- لا يستطيع أن يزرع القطن ويجمعه ويغزله وينسجه؛ ليلبس، والإنسان لا يستطيع أن يزرع القمح ويحصده ثم يطحنه ثم يخبزه.
إن الله لم يخلق الناس ليقوم كل فرد بإشباع حاجات نفسه المتنوعة، إنما وزع الله المواهب، لتتداخل هذه المواهب، ويتكامل المجتمع البشري، فواحد يزرع الأرض، وثانٍ يغزل القطن، وثالث ينسج القماش، ورابع يصنع الأدوات. وهذا عدل عظيم؛ لأن الطاقة البشرية لا تقوى على أن تقوم بكل متطلبات الحياة، لذلك جعل الحق هذا التنوع في المواهب ليربط الناس بالناس قهرا عن الناس، فلم يجعل لأحد تفضيلا على أحد، فما دام واحد يعرف في مجال، وآخر لا يعرف في هذا المجال، فالذي لا يعرف محتاج للآخر، وهكذا يتبادل الناس المنافع رغما عنهم.
ولذلك نجد الكون متكاملا. ولينظر كل منا إلى حياته وليعدد كمْ زاوية من زوايا العلم، وكم زاوية من زوايا القدرات، وكم زاوية من زوايا المواهب تلزم حتى تخدم حركة الحياة؟
إن هذه الزوايا موزعة على الناس جميعا ليخدموا جميعاً حركة الحياة. وهذا قمة العدل. وحتى يوضح لنا الحق قيمة العدل وكيفية العدالة في إقامة المحبة والاحترام بين البشر، فلينظر الواحد منا إلى الإنسان الآخر البعيد عنه، ويتساءل بينه وبين نفسه: أهذا الرجل البعيد عني يعمل من أجلي؟ وتكون الإجابة: نعم.
إذن، فعلى الإنسان عندما يرى إنسانا متفوقا في صنعة ما، فليقل: إن تفوقه في صنعته عائد إليّ وتفوقه في موهبته عائد إليّ، وهكذا منع الله بالعدل الحقد والحسد، وجعل الناس متكاتفين قهرا عنهم، لا تفضيلا منهم، إذن، فكل إنسان يسعى بحركة الحياة إنما يقيم نفسه في زاوية من زوايا الحياة، ومن العجيب أن الزاوية التي يُحسنها الإنسان تكون حاجته فيها أقل الحاجات، لذلك نجد المثل الريفي الذي يقول: (باب النجار مخلع)، وذلك حتى يعلم الإنسان أن موهبة ما تكون عند غيره سوف تنفعه هو، بدليل أن الموهبة التي عندك لم تنتفع أنت بها إلاّ قليلا.
وبذلك يشيع في الناس اقتناع بأن موهبة كل فرد فيهم، إنما تعود عليهم جميعا، وبذلك تحل المحبة والاحترام بدلا من الحسد والحقد. وعندما سأل أحد الظرفاء: ولماذا يكون باب النجار هو (المخلع)؟ قال أحد الظرفاء ردا عليه: لأنه الباب الوحيد الذي لن يأخذ النجار أجرا لإصلاحه، ونلتفت إلى العجائب في الحكمة الشائعة، فنجد أطباء اخصائيين في ألوان من المرض، وصاروا أعلاما في مجالات تخصصاتهم، ويشاء الحق سبحانه وتعالى ألا يصابوا إلا بما برعوا فيه، كأن الذي برعوا فيه لم يفدهم هم بشيء، إنما أفاد الآخرين. ولننظر إلى الآية في مجملها: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم} لقد استهلها الله بقوله: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط} ثم قال بعد ذلك: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم} فكأن الآية تقول لنا: إذا ثبتت شهادة الذات للذات، وشهادة المشهد من الملائكة، وشهادة الاستدلال من العلماء، فإن القاعدة تكون قد استقرت استقرارا نهائيا لا شك فيه، فخذوها مسلمة: (لا إله إلا هو).
وما دام (لا إله إلا هو) فليكن اعتمادك عليه وحده، واعلم أنك إن اعتمدت عليه وحده إلها فأنت قد اعتمدت على عزيز لا يُغْلب على أمره.
قال صلى الله عليه وسلم: «إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام، وجفت الصحف».
فلا يستطيع أحد أن يدخل مع الله في جدال. إنما يدخل خلق الله مع خلق الله في خلاف أو نضال، لكن لا أحد يجرؤ على أن يدخل في نضال مع الله لأنه عزيز لا يغلب. فإن آمنت به وحده، فلك الفوز. وكلمة (وحده) قد تبدو في ظاهرها تقليلا للسند الذي تستند إليه في القياس البشرى، فيقال: (أنا لاجئ إلى فلان وحده) وعندما تكون لاجئا إلى عشرين ألا تكون أكثر قوة؟ لكن هنا لا يكون قياس بين اللجوء إلى الله وحده، بقياس اللجوء إلى مخلوق. إنك هنا تلجأ إلى خالق أعلى بيده مقاليد كل شيء وهو على كل شيء قدير، فكلمة (وحده) هنا تغنيك وتكفيك عن الكل. اعمل لوجه واحد. يكفك كل الأوجه، واعلم أنه لا يوجد من يغلبه على أمره.
وعظمة الحق أنه واحد أحد فرد متفرد صمد، وهو عزيز لا يُغْلب على أمره وهو صاحب كل الحكمة في وضع الأشياء في مواضعها بحيث إذا ما عرفت حكمة مايجريه الله سبحانه وتعالى على خلقه فأنت تتعجب من عظمة قدرة الله، لأن الحكمة هي وضع الشيء في موضعه، وما دمت قد وضعت الشيء في موضعه فإنه لا يكون هناك قلقٌ، وما دام الشيء موضوعا في مكانه فهو مستقر، وما دام الشيء مستقراً فإنه لا يتلون وتزداد الثقة فيه، وهذه مأخوذة من (الحَكمة) التي تُوضع في فم الفرس، والتي نسميها (اللجام) وهي كما نعرف تتكون من قطعة من الجلد تدخل على اللسان وفيها قطعة من الحديد، فإن مال إلى غير الاتجاه الذي تريد، يكون من السهل جذبه إلى الاتجاه الصحيح.
إن وجود الحكمة يعني وجود شيء يحكمه فلا ينحرف يمينا ولا يسارا، وما دام الله قد شهد أنه لا إله إلا هو، وشهدت الملائكة وشهد أولوا العلم، وانتهت القضية بعد هذه الشهادات إلى أنه لا إله إلا هو، وأنه العزيز الحكيم، فكل منهج منه يجب أن يُسلم إليه، وأن ينقاد له. وما دام الله قد شهد لنفسه بأنه إله واحد، أي لا يوجد له شريك ينازعه فيما يريد من خلقه، وليس لله شريك في الخلق، وليس لله شريك في الرزق، وليس له شريك في التشريع.
إذن.. فالجهة التي نستمد منها مقومات منهجنا هي جهة واحدة، وكان من الممكن أن تظلم وتجور هذه الجهة الواحدة الخالقة على ما خلقت لأنه ليس لأحد من خلق الله حق على الله، لكن الله سبحانه عادل، إنه سبحانه يطمئننا، فهذه الوحدانية بقدرتها وجبروتها وعلمها وحكمتها عادلة لا تظلم، لأنه قال: مع أني إله واحد، لا يُرد لي حكم ولا أمر فأنا قائم بالقسط.
والقيام بالقسط يجب أن نتوقف عنده لنفهمه جيدا، إن الحق يقول عن نفسه: (قائما بالقسط) وكلمة قائم تعني أن الله قد خلقهم الخلق الأول، وهذا الخلق إنما قام على العدل والقسط. وتكليف الحق للخلق قام على العدل والقسط. والعدل والقسط يقتضي ميزانا لا ترجح فيه كفة على كفة، وهذا الميزان ممسوك بيد القدرة القاهرة التي لا توجد قوة أعلى منها تميل في الحكم، والحق سبحانه قائم بالقسط في الخلق، فقبل أن يخلقنا أعدّ لنا ما تتطلبه حياتنا بالقسط أيضا، فلم يجعل أمر الحياة قائما على الأسباب التي يكلفنا بها لنعيش، بل حكم بالقسط، لقد جعل الحق بعضا من الأمور لا دخل لنا نحن العباد فيها، ولم يقض الحق بذلك على حركتنا ولا على حريتنا في الحركة، لذلك خلق لنا أسبابا إن شئنا أن نفعل بها وصلنا إلى المسببات، وإن شئنا ألا نفعل فنترك الأسباب والمسببات.
إذن.. فالحق سبحانه لم يحكمنا في قضية الخلق الأولى بشيء واحد، بأن يجبرنا على كل شيء، بل جبرنا بأنه سبحانه لم يدخل أسبابنا ولا حركتنا في كثير من الحركات التي تترتب عليها الحياة، فلم يجعل الشمس بأيدينا، ولا القمر، ولا الريح، ولا المطر. كل هذه الأسباب جعلها بيده هو، لماذا؟ لأن هذه الأسباب ستفعل للمخلوق قبل أن تكون له قدرة. هذه الأسباب تفعل للإنسان قبل أن توجد له حياة؛ لتمهد للحياة التي يهبك الله إياها، فلو ترك الله كل هذه الأشياء لأسباب الإنسان لتأخرت هذه الأشياء إلى أن يوجد للإنسان إرادة، وتوجد له قدرة وعلم.
لقد جعل الله أسباب الحياة بيده، كالتنفس مثلا، إن التنفس لا يخضع لإرادة القدرة على الحركة في الحياة، ولكنه قال لك: أيها الإنسان- وهو سبحانه الإله القادر- تحرك التنفس إلى أن توجد له إرادة. ولا توجد الإرادة إلا إن وجُد عند الإنسان علم بأنه يريد إدخال الأوكسجين إلى الرئتين حتى يتغذى الدم والمخ وينقى الدم والجسم من الأشياء التي تضره، هذا يقتضي العلم، فإن كان هذا الأمر يقتضي العلم. فماذا يصنع الطفل الذي ليس له علم؟ كيف يتنفس؟
لذلك فمن رحمة الله وعدالته أن جعل أمر التنفس- على سبيل المثال- بيده هو سبحانه، ولكن الحق سبحانه لم يقض على مخلوقه بأن يجعله في الكون بلا حرية أو اختيار، لا، لقد ترك الحق سبحانه بعضا من الأشياء لحرية الإنسان واختياره.
إذن، فالحق لم يلزم العبد تسخيرا، ولم يمنع تخييرا. وذلك هو العدل المطلق. لقد احترم الحق كينونة الإنسان، وحياة الإنسان، ومشيئة الإنسان، واختيار الإنسان، فقال: أنا سأعطيك أسباب الحياة الضرورية ولا أجعل لك دخلا فيها؛ لأنك إن تدخلت فيها أفسدتها، وتأخر وصول خدمتها لك إلى أن تعرف وتعلم، وأنا- الحق- أريدها لك، وأنت أيها الإنسان عاجز قبل أن توجد لك، وأنت قادر بوجودها الذي أمنحه لك؛ لذلك جعلتها بيدي أنا الخالق المأمون على خلقي. ولكن لن أقضي على حريتك، فإن أردت ارتقاءً في الحياة فتحرك في الحياة، إن شئت أيها الإنسان أن تفعل فافعل. وإن شئت أيها الإنسان ألا تفعل فلا تفعل. وهذا مطلق العدل.
ثم جاء الحق سبحانه وتعالى وجعل قوله: {قَآئِمَاً بالقسط} مشتملا على التكليف أيضا، أي إن عدالته في التكليف مطلقة. فأناس يقولون: (لا إله) وأناس آخرون عددوا الآلهة، فقام الحق بالقسط بين الأمرين. هو إله موجود يا من تقول: (لا إله). وهو إله غير متعدد يا من تشرك معه غيره. وهذا قيام بالقسط وجاء الحق سبحانه في الأحكام. ونحن نجد أحكاما شرعية طلبها الحق سبحانه من العبد طلبا باتا، ولم يتركها لاختيار الإنسان ونجد أشياء تركها الحق سبحانه ليجتهد فيها الإنسان، فلم يجعل الحق سبحانه العبد حراً طليقا يعربد في الكون كما يشاء، ولم يجعل الحق سبحانه عبده مقهورا أو مقسورا بحيث لا توجد له إرادة أو اختيار.
لقد جعل الله للإنسان مجالا في القسر ومجالا في الاختيار، أوجد في الإنسان القدرة على الحركة في الحياة، ولكنه قال لك: أيها الإنسان- وهو الإله القادر- تحرك في الحياة وأنا أحمي نتيجة ما تتحرك فيه، ولكن لي في مالك الذي جعلتك فيه خليفة حق عليك أن تعطي بعضا منه لأخيك المحتاج.
لقد أعطى الحق للنفس البشرية أن تكد، وأعطى لها أن تكدح، وحفظ لها ما تملك، ولكنه هو الحق لم يُطلق للنفس البشرية عنانها، بل قال: لي حق في ذلك. وهكذا نجده سبحانه قد عدل في هذا الأمر.
إذن فقول الحق إنه قائم بالقسط.. نجده واضحا في كل شيء؛ ففي الخلق والرزق والتكليف نجد أنه قائم بالقسط، وما دام هو إلها واحدا وقائما بالقسط، فما الذي يمنعك أيها الإنسان أن تخضع لمراده منك؟ يقول الحق سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام...}.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9